رحلة نحو التميّزعينة
المسيح الجوّاد (عرس قانا الجليل)
إن أردنا في كنيستنا أن نبني ثقافة الجودة والنوعية في الخدمة، (1) نحتاج إلى أن نُدرك أنّ سيّد هذا الكون، الخالقَ المبدع، هو أيضًا إله يُحبُّنا. وقد كشف لنا يسوع المسيح أنّ الله أبانا الذي هو في السماوات، هو أيضًا محبّة. (2) ونحتاج إلى نماذج من قادة يُحبّون ويُضحّون ويُعطون أولًا نوعّيةً وإتقانًا وتميّزًا، ويُعطون بِكرمٍ وفَيْضٍ دون مقابل. (3) كما نحتاج إلى شعب يتجاوب مع محبّة الله، فَتولد عندئذٍ ثقافة الجودة في الكنيسة.
يوحنا الفصل الثاني:
1 وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، (وهذه خربة قانا وتبعد حوالى ١٥ كلم شمال الناصرة، فنحن لسنا في قصور روما، ولا في هيكل أورشليم العظيم بل في ضيعة متواضعة) وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. 2 وَدُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إلى الْعُرْسِ. 3 وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». 4 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». 5 قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ». 6 وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ، يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطَرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً. 7 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إلى فَوْقُ. 8 ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إلى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ». فَقَدَّمُوا. 9 فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْرًا، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ، لكِنَّ الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا، دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ. 10 وَقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إلى الآنَ!». 11 هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ.
نتأمّل في سلوك المسيح، وفي سلوك مريم، ثمّ ننظر إلى أبعاد هذه القصة.
1- دُعِيَ يسوع والتلاميذ إلى عرس، وكانت أُمّ يسوع هناك. وبينما كان الكلُّ يحتفل، لاحظت مريم أنّه لم يبقَ لديهم خمر. فعدم وجود الخمر في الاحتفال، يجلب العار في بيئة تُركِّز على الضيافة والكرم. والأفضل أن يَظهر كرَمُ صاحب البيت. فقالت له مريم: "أنقِذْنا يا يسوع، لئلّا نُحرَج أمام المدعوّوين!". وكان هناك ستة أجران من حجر، فطلب أن يملؤوها ماءً، وحوّل يسوع الماء إلى خمر. فكانت نوعية الخمر جيّدةً. فـ "قال له رئيس المُتّكأ: كل إنسان إنّما يضع الخمر الجيّدة أوّلًا، ومتى سكروا، فحينئذ بضع الخمر الدون". أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيّدة إلى الآن. وهذا يعني أنّ الربّ يسوع حوّل الماء إلى خمر ذي جودةٍ عالِيَة. ورُبَّ مَن يسأل: "لماذا لم يحوّل الماء إلى خمر عاديّة؟" لأنّ المسيح هو الجوّاد الأعظم، ولا يقدر إلّا أن يُقدِّم الجيّد في كلّ ما يعمله. وهو لا يقدر أن يُقدِّم النوعيّة الوسط. بل عندما يعطي، فهو يُقدِّم الأجود. لقد قلنا الأسبوع الماضي، إنّ الجوّاد يُعطي نوعيّة جيّدة، ويُعطيها بسخاء.
ماذا عن الكمية؟ "6 وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ، يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطَرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً. 7 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إلى فَوْقُ. يسع الجرنُ بين 75 و 115 ليتر ماء. فستَّة أجران تسع حوالى 450 ليتر ماء، أي حوالى 6000 قنينة نبيذ. فإذا كان سعر القنينة ذات الجودة الجيّدة 50 دولارًا، تُقدَّر القيمة الإجماليّة بـ 300.000 دولار، وتلك هديّة ثمينة جدًّا للعريس والعروس والأهل! كذلك بعدما أشبع يسوع الجموع، رفعوا من الكِسَر إثنتي عشر سلّة! أكثر من ذلك، لم يُرسل الله لنا عبده أو ملاكه، بل أرسل ابنه الوحيد الذي سفك دمه على الصليب لأجلنا، فخرج دم وماء، ومات عنّا.
تظهر ثقافة الجودة إذًا، عندما تُعطي نوعيَّةً وكمّيّة، من وقتك، من محبّتك، من فكرك، من عاطفتك، من قلبك وعلاقاتك، سواء أكان في بيتك، أم في عملك، أو في الشارع، أو لعائلتك.
(2) دعونا نتأمّل قليلًا في حياة مريم في هذا النصّ: لمّا فَرَغت الخمر، ذهبت إلى يسوع، وكان لديها الإيمان الذي لا يتزعزع أنّ يسوع قادر أن يخلّص الجميع من هذه الورطة، فقالت للخدّام بحضور يسوع: "مهما قال لكم فافعلوه".
أم يسوع: لاحظوا أنّ يوحنا لا يدعوها إطلاقًا مريم، بل "أمّ يسوع"، وهي أم يسوع. الغرب يستغرب الأمر، أما نحن فلا، فالأم تأخذ لقب اسم ابنها البكر: "أم سليم"، "أم اندره"، وخصوصًا إذا كان الابن مشهورًا. وأكثر من ذلك، أنّ مريم هي أوّل مَن آمن بالمسيح يسوع، وهي الوحيدة في الكون، التي تحمل اسم ولقب والدة الاله. لذلك نُحبُّها، ونُقدّم لها الإكرام. يقول الكتاب المقدّس: "أكرم أباك وأمك". وقد قال يسوع وهو على الصليب ليوحنّا: "هي ذي أمّك!"، فهي إذًا أمّي أيضًا. وهي النموذج الأفضل للتَّلْمَذَةِ الحقيقيّة.
ذهبت مريم إلى يسوع، وقالت للخدّام مهما قال لكم فافعلوه: نرى في هذا النصّ أنّه لمّا وقعت المصيبة، ذهبت إلى يسوع وقالت له: لم يبقَ عندهم خمر، أنقِذْنا من هذه الورطة! إذا وقعت أنت في مصيبة وذهبت إلى مرشدك، فهو يأخذك إلى يسوع؛ وإذا ذهبت إلى القديس بولس، تقرأ رسائله، فهو يدلّك على يسوع؛ وإذا ذهبت إلى مريم العذراء فهي تُرشدك إلى يسوع المسيح. "فاذهب إذًا إلى مَن تشاء إن كان يوصلك إلى يسوع. أمّا إذا تركك أحدهم عنده، ولم يوصلك إلى يسوع، فإنّه ليس من الله". كاتب رسالة العبرانيين يقول: اذكروا مرشديكم (الذين ماتوا) الذين كلّموكم بكلمة الله، وانظروا إلى نهاية سيرتهم وتمثّلوا بإيمانهم. ولكن تذكَّروا أنّ يسوع المسيح هو هو أمسِ واليوم وإلى الأبد (لا بداية له ولا نهاية، ولا يموت). سحابة القدّيسين في تاريخ الكنيسة هم الذين أرشدونا إلى الإيمان، فَلْنَتمثّل بإيمانهم.
لكن، هل يُصبِح القديس وسيطًا بيني وبين الله؟ كلّا، لأنّ لنا إلهًا واحدًا ووسيطًا واحدًا بين الله والناس، هو الإنسان يسوع المسيح. الذي قال: أنا هو الطريق والحق والحياة، وليس أحد يأتي إلى الآب إلّا بي. وله يشهد جميع...
التطبيق: إذا كنْتَ أنتَ في مأزق، أو كان جارك في حاجة إلى إرشاد، فدُلًّ الناس على يسوع، واذهب أنت أيضًا إليه. فالجودة هنا في أن تذهب إلى يسوع كما قدَّمَت مريم الجودة في عرس قانا.
(3) أبعاد هذه القصة ورموزُها
تنتهي هذه الرواية بهذه الكلمات: "هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ". إنّها أوّل معجزة مدوَّنة يَذْكرها يوحنّا الذي اختار سبعَ معجزات، مع أنّه يقول: "وأشياءُ أُخرى كثيرَة صنعها يسوع، إن كتبَتْ واحدةً فَواحدةً، فلا أظُنّ أنّ العالم نفسه يَسَعُ الكتبَ المكتوبة" (يو ٢١: ٢٥). أمّا المعجزات السبع التي اختارها يوحنّا وكتبها في إنجيله، فهي: 1- تحويل الماء إلى خمر، 2- شفاء ابن خادم الملك، 3- شفاء مريض بيتِ حسدا، 4- إشباعُ الخمسة آلاف، 5- المشي على المياه، 6- شفاء المولود أعمى، 7- وإقامة لعازر من الموت.
ولكن لماذا اختار يوحنّا معجزة تحويل الماء إلى خمر؟
* عندما قالت له أمه: ليس عندهم خمر. من المُؤَكَّد أنّها توقَّعَتْ أن يُنقذ يسوع الموقف. لكنّه أجابها: "ما لي ولك يا امرأة؟"
- رأى بعض آباء الكنيسة والمفسِّرين في ذلك إشارة إلى أن مَن يُكلِّمها ليس ابنَها فقط، بل ابنُ الله أيضًا. فإذا كانت قد اقتربَتْ هي منه كأمّ، فهو يُكلِّمها بكلّ احترام، كامرأة صاحبة الإيمان العظيم. وإذا اقتربَتْ منه كصانع المعجزات، فهو يَرُدّ عليها كَرَبِّ الكلّ. وفي كلتا الحالتين هي كلمة فيها احترام وتقدير.
- ورأى فيها البعض الآخر علاقة بين كلام الله عن حوّاء، في تكوين 3، عندما سقط الانسان ولَعَنَ الله الحيَّة، وقال: "أضع عداوة بينكِ وبين المرأة، وبين نسلِك ونسلِها. هو (نسلُ المرأة أي المسيح) يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه؛ وبين مريم أمّ يسوع. فكما أنّ المرأة الأولى (حواء) عَصَتْ ووَلَدَتِ الخطيئة؛ كان لا بدّ من أن تُطيع المرأةُ الثانية فَيولَد مخلِّص العالم.
- لكن قد تُستَخدم هذه العبارة أيضًا، عندما يُطلَب من شخصٍ أن يقوم بشيءٍ أو بعملٍ ما، ويشعر بأنّ ذلك ليس من شأنه، فيترك مسافة بينه وبين الآخر. وفي ذلك إشارة إلى التَّردُّد وعدمِ الرغبةٍ في المشاركة، وليس رفضًا للشخص. ولكن، لماذا تردَّد المسيح؟ لأنّه كان يعلم أنّ هذه المعجزة ستضعه على درب الصليب. ونجدُ مثيلًا لهذه العبارة في (٢ ملوك الفصل ٣ : ١٣) لمّا طلب ملكُ إسرائيل، إلى النبيّ أليشع أن يسأل الله عن الحرب مع ملك موآب، يقول الكتاب إنّ أليشع أجاب: "ما لي ولكَ! اذهبْ إلى أنبياء أبيك وإلى أنبياء أمك"، وبعدما أصرّ عليه الملك، كلَّمه أليشع بكلام الربّ. فذلك لا يعني إذًا رفضًا كاملًا، بل عدم رغبة في المشاركة، وترْك مسافة بينه وبين الآخر.
* أضاف يسوع: لم تأتِ ساعتي بعد؟ فماذا تعني هذه العبارة؟
إنّها تُشير إلى ساعة تمجيد ابن الإنسان من خلال الصليب والقيامة. أي "لم تأتِ ساعةُ صلبي، وموتي، ساعةُ سفك دمي". وقد كرَّرها يوحنا مرارًا في إنجيله.
* كيف يُمكن لِطلبِ مريم أن يُحضِرَ ساعةَ موتِ يسوع؟
الواضح أنّ المسيح يرغب في أن يُرفَع على الصليب، فيما تحويل الماء خمرًا، لا يجعل الناس تصلبه. فما الذي يمكن أن يُسبِّب موت المسيح (تمجيده) إذًا في هذه المعجزة؟ عندما حوَّل يسوع الماء خمرًا، فكأنّه كان يقول في فعله هذا: "إنّي أتيتُ لأحوّل ماء اليهودية إلى دم العهد الجديد بموتي على الصليب"، وفي هذا يتمجّد المسيح.
فكما دانَ الهيكلَ واستبدله بجسده (يوحنا ٢)؛ وكما استبدل الانتماءَ العرقيَّ للخلاص، بالخلاص من خلال الولادة من فوق؛ وكما استبدل مكان العبادة (جبل صهيون أو جبل جريزيم) بالعبادة بالروح والحقّ؛ وكما استبدل الخبز في البرية بالخبزِ النازل من فوق؛ وكما استبدل إضاءة الهيكل وشعاع نوره القوي، بشخصه عندما قال أنا نور العالم؛ وكما استبدل ذبيحة الفصح، بشخصه، هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم، خذوا كُلوا هذا هو جسدي، كذلك استبدل هنا مياه اليهودية التي هي للتطهير، بالتطهير الحقيقيّ بدمه الذي سيُسفَك عندما تأتي الساعة. ودم يسوع المسيح ابنه يُطهِّرنا من كلّ خطيئة.
(١) وضَعَ يوحنّا هذه المعجزة أوّلَ كلّ المعجزات،
(٢) تشديد يسوع على أنّ هذه المعجزة تُحضِّر ساعة موته،
(٣) وإظهار مجده كما أظهر يهوه مجده لموسى؛ وإيمان التلاميذ،
(٤) نبوءات العهد القديم وتوقّعات اليهود ان الجبال تقطر خمرًا وعصيرًا، عندما يأتي المسيح كونه العريس الحقيقي الذي يُوفِّر الخمر للجميع،
(٥) أسلوب يوحنّا المغموس بالأبعاد اللاهوتية؛
(٦) تفاسير الكنيسة عبر العصور تؤكِّد أنّ قصد يسوع بتحويل الماء إلى خمر، هو تحويل نظام العهد القديم وماء التطهير في اليهودية إلى دم العهد الجديد.
هذه المعجزة أظهرت مجد يسوع وشخصه. فهو الجوّاد. وهو عريس الكنيسة، والكنيسة جسده. والآن وقت الجودة. فهلمّوا إذًا لِنَعِشِ الجودةَ الحقيقيّة في كلّ ما نعمل.
الكلمة
عن هذه الخطة
رحلة نحو التميز، هي دعوة للانطلاق في مسار روحي عميق يسعى فيه الإنسان إلى التفوق في حياته من خلال الاقتداء بالرب يسوع المسيح والسير في طريقه، ليتمكن الفرد من تحقيق أهدافه بروح المحبة والخدمة، ليكون أداة للسلام والنور في هذا العالم.
More
نود أن نشكر Resurrection Church على توفير هذه الخطة. لمزيد من المعلومات ، يرجى زيارة: https://www.rcbeirut.org/