أسفار موسى الخمسةعينة
اليوم 3: المنهجيات النقديّةِ الحديثة (المنهجيّات التفسيرية)
سنتأمل في خمسِ منهجيّاتٍ تفسيريّةٍ رئيسيّةٍ لعلماءِ النقد المعاصرين.
1) النقد المصدري:
برزَ النقدُ المصدريُّ، أو ما كان يُعرفُ أساساً "بالنقدِ الأدبي"، في عملٍ لكارل جراف بعنوانِ الأسفارُ التاريخيّةُ للعهدِ القديم، والذي صدرَ عام 1866. وقامَ بِتنقيحِ هذا العمل المُفسّر المعروف يوليوس ڤِلهاوزِن Julius Wellhausen في كتابِهِ مُقدّمةٌ في تاريخِ إسرائيل الذي صدرَ عامَ 1883. اعتقدَ عماءُ النقدِ المصدري أنّ أسفارَ موسى الخمسة نشأت من التقاليدِ الشفويّة، تماماً مثلما نشأت سائرُ كتاباتِ الدياناتِ القديمة. لكنَّهُم حَصروا اهتمامَهم في تحديدِ وتفسيرِ أجزاءٍ من الأسفارِ الخمسة، التي اعتقدوا بأنّها أتَتْ من مصادرٍ مكتوبةٍ مستقلّةٍ ظهرت خلالَ فترةِ الملكيّة في إسرائيل.
فبحسبِ مصطلحاتِ ڤِلهاوزِن، إنّ أوّل المصادر المُوثّقَةِ للأسفارِ الخمسة، والتي كُتِبَت في فترةِ الملكيّة المُبكرة، جرت العادة على تسميتِه المصدر "J"، "اليَهَوي"، وهو يحملُ هذا الاسم لأنّ اسمَ الله البارز في النصوصِ التي تتطابقُ مع هذا المصدر المكتوب هو "يَهوَه"- واسمُ يهوه يبدأ باللاتينيّةِ بحرف "J"، على غِرار "جيهوڤا" (Jehovah). وتنتشرُ نصوصُ المصدر "J" بين سِفرَي التكوين والخروج. وقد حاولَ نُقّادُ المصدر أن يُبرهِنوا أنّ أجزاءً من الأسفارِ الخمسة كُتبَت في الأصلِ في يهوذا في أيّامِ سليمان حوالي سنة 950 ق.م. وانطلاقاً من وجهةِ النظرِ هذه، تُمثّلُ نُصوصُ المصدر "J" وثيقةً تحكي عن الأزمنةِ القديمةِ وتَدعمُ مركزيّةَ وتنظيمَ ديانةِ ومجتمعِ إسرائيل في أورشليم من خلالِ مملكةِ داود.
والمصدرُ الثاني من مصادرِ الأسفارِ الخمسة جرت العادةُ على تسميتهِ "E"، "الإيلوهيمي"، لأنّه يُطلَقُ عادةً على الله الاسم إِيلوُهيم في هذهِ النصوص. وتظهرُ نصوص المصدر "E" أيضاً في سفري التكوين والخروج. وبموجبِ هذهِ النظريّة، كُتبَت نصوص المصدرِ "E" حوالي سنة 850 ق.م. في المملكةِ الشماليّةِ بعدَ تقسيمِ إسرائيل إلى مملكتين. ورَوّجت نصوصُ المصدرِ "E" لآراءٍ نبويّةٍ من المملكةِ الشماليّةِ انتقدت مملكةُ داود.
مصدرٌ ثالثٌ عُرِفَ بالمصدرِ "D"، أو "التَثنَوي". وقد أُطلِق عليه هذا الاسمُ لأنّ النصوص التي يتضمّنُها هذا المصدر، تَظهرُ بشكلٍ أساسيّ في سفرِ التثنية، ولا تَظهرُ إلّا نادراً في أجزاءٍ أخرى من الأسفارِ الخمسة. وعادةً ما يتمُ تَأرِيخُ كتابةِ هذا المصدر إلى الفترةِ ما بين إصلاحِ يوشيّا حوالي سنة 622 ق.م. وسقوطِ أورشليم بأيديِ البابليّين سنة 586 ق.م. انطلاقاً من هذه النظريّة ذاتَها، يُمثّلُ المصدرُ "D" أعمالَ اللاويّين الذين ارتدّوا عن مملكةِ إسرائيل الشماليّة وجاءوا إلى يهوذا. كان هؤلاء اللاويّين أمناءً لبيتِ داود لكنّهم انتقدوا في الوقتِ نفسِه سُلالَته.
أخيراً، مصدرٌ أدبيٌّ رابعٌ كان له دورٌ أساسيٌّ في تطوّرِ الأسفارِ الخمسة يُعرَفُ بالمصدرِ "P"، أو الكهنوتيّ لمؤلّفه أو مؤلّفيه. وبحسبِ محاولةٍ معروفةٍ لتحديدِ هذا المصدر، فقد نشأ المصدرُ "P" عن مجموعةٍ من الكهنةِ قاموا بكتابةِ اللاويّين وتجميعِ وتنقيحِ أجزاءٍ من الأسفارِ الخمسة بين عامَي خمسمئة وأربعمئة قبل الميلاد. وهكذا بحسبِ هذه النظرية، أعدَّ المصدرُ "P" الأسفارَ الخمسةَ لتوجِّه النظامِ الاجتماعي والعبادةِ بعد عودةِ بقيّةِ إسرائيل من السبي.
خلالَ القرن العشرين، لم يتركَ علماء الكتاب المقدّس الأكفّاء أيّ جانبٍ من نقدِ المصدرِ إلّا وتحدّوه. وعلى الرَغمِ من ذلك، ما زلنا نرى رَواسباً لهذهِ الآراء تَظهرُ في كلِّ تفسيرٍ نقديٍّ يتناولُ الأسفار الخمسة.
2) نقد الصيغ الأدبيّة:
أصبحَ نقدُ الصِيَغ الأدبيّةِ حقلاً مُتخصّصاً في دراساتِ العهدِ القديم من خلالِ عملِ هيرمان جونكِل بعنوانِ أساطيرِ التكوين الذي كُتِبَ عام 1901. كان جونكِل والذين تَبِعوُهُ قد رَحّبوا بالمبادئ الرئيسيّة للنقد المصدري، لكنّهم رَكّزوا على مرحلةٍ مُبكرةٍ من نشأةِ أسفارِ موسى الخمسة. فبدلَ أن يُركّزوا على المصادرِ المكتوبةِ للأسفارِ الخمسة، رَكّزَ نقّادُ الصِيَغ الأدبيّة على ما اعتبرُوه التقاليد الشفويّة التي سَبَقت عصرَ الملكيّة في إسرائيل.
في الفترةِ التي كان فيها نقدُ الصِيَغ الأدبيّةِ أمراً شائعاً، قامَ العلماءُ بدراسةِ كيف كانت التقاليدُ الشفويّةُ تعملُ داخلَ الحضارات القبليّة الأميّة. وقد طَبّقَ نقّادُ الصِيَغ الأدبيّةِ هذه الدراسات في بحثِهِم عن التقاليدِ الأصليّة المُتناقِلة، التي لم تكن قد وُضِعَت في صِيَغةٍ أدبيّةٍ بعد، والتي نَشأت منها المصادرَ الوثائقيّة للأسفارِ الخمسة.
ولمنهجيّةِ نقدِ الصِيَغ الأدبيّة في الأساسِ وجهان: فمن جهةٍ، قامَ نُقّادُ الصِيَغِ الأدبيّةِ بتحليلِ النصوص في محاولةٍ منهم لاكتشافِ صِيَغٍ شفويّةٍ قديمةٍ، أو قوالبٍ أدبيّةٍ، مثل الخرافات، الحكايات الشعبيّة، المَلاحم، الرومانسيّات، الأساطير والحكايات الرمزيّة. ومن جهةٍ أخرى، ربطوا هذه القوالبَ الأدبيّةَ بالأُطُرِ الحضاريّةِ المعروفةِ بـ"زيتس إم ليبين" (Sitze im Leben) أو "الأوضاعِ الحياتيّة" التي أحاطت بهذه التقاليد الشفويّة. وقد تضمّنت هذه الأُطُر: العبادة، المخيّمات القبليّة، التوجيهات العائليّة، والمحاكم المحليّة، وما شابه ذلك.
لا شكَّ أن نقد الصيغ الأدبيّة أكّد على نحوٍ صحيح على أهميةِ هياكلِ البُنية، والسماتِ الاصطلاحيّة للنصوصِ الكتابيّة. لكن، مثلَ النقد المصدري، كانت هناك اعتراضاتٌ على نقدِ الصيغ الأدبيّة بطرقٍ متنوعة. وتركّزت الاعتراضاتُ على نقدِ الصيغ الأدبيّة، بصورةٍ خاصة، على محاولاتِه التخمينيّة لإعادةِ بناءِ الأشكالِ الأدبيّة الشفويّة، والخلفيات، التي تقفُ خلفَ النصوص الكتابيّة. ومع ذلك، ما زلنا نجد أن نقد الصيغ الأدبيّة يقودُ الكثيرُ من علماءِ النقد نحو تركيباتٍ بنائيّةٍ مشكوكٌ فيها حتى في يومِنا هذا، بدلاً من أن يقودَهم إلى الأسفارِ الخمسة كما توجدُ في قانونيّةِ الكتابِ المقدس.
3) النقد التقليدي:
لفتَ علماءُ النقدِ التقليدي الانتباهَ إلى كيفيّةِ تَطوّرِ التقاليدِ الشفويّة والنصوص المكتوبة من تقاليدٍ بِدائيّةٍ بسيطةٍ إلى وجهاتِ نظرٍ لاهوتيّةٍ وسياسيّةٍ مُعقّدة. وقد تَساءلَ كِبارُ العلماءِ، أمثالَ مارتن نوْت في كتابهِ تاريخُ تقاليدِ الأسفارِ الخمسة الذي صَدرَ عام 1948، وجيرهارد ڤوَن راد في كتابِهِ لاهوتُ العهد القديم الصادر عام 1957، كيف تَعكسُ الأسفارُ الخمسة تأثيرَ التقاليد المختلفة. قامَ علماءُ النقدِ التقليدي بالتعرّفِ على ما اعتبروا أنّها مجموعةٌ من المعتقداتِ اللاهوتيّة المُتنافِسَة التي تَضمّنتها الأسفارُ الخمسة. فقد لاحَظوا كيف دمَجَت الأسفارُ الخمسة تقاليدٌ متعدّدةٌ تناولت مواضيعَ مثل الخلق، الآباء، الخروجُ من مِصر والاستيلاءُ على أرضِ الموعد. وعلى سبيلِ المثال، لا الحصر، بحثَ هؤلاء النُقّاد في وجهاتِ النظرِ حول أسباطِ إسرائيل، عرشِ داود، وهيكلِ أورشليم. واعتقدوا بأنّ هذه التياراتِ المُعقّدةِ من اللاهوت، أثّرت بشكلٍ كبيرٍ على العديدِ من المواضيعِ الرئيسيّة التي ظهرت في الأسفارِ الخمسة.
ومرّةً أخرى، كانت غالبيّةُ الاستنتاجاتِ الخاصّةِ بالنقدِ التقليدي محورُ شكٍّ على مدى السنين. ومع ذلك، لا زلنا نرى تأثيراتِ هذا النهج حين يتناولُ مُفسّرو العهدِ القديم نصوصاً تعكسُ اتّجاهاتٍ مُتعدّدةٍ من التقليدِ في إسرائيل تُعارضُ أو حتى تُنافسُ بعضُها بعضاً.
4) النقد التنقيحي:
ظَهرَ النقدُ التنقيحي في القرنِ العشرين في دراساتِ العهدِ الجديد كوسيلةٍ لشرحِ الفروقات بينَ أناجيلِ العهدِ الجديد. واعتبرَ علماءُ النقدِ التنقيحي أنّ هذه الفروقات نَتَجَت عن تحريرِ وثائقٍ مُدوّنةٍ سابقاً وإعادةِ تشكيلِها. وقد تَمَّ تطبيقُ أساليب مُشابهة على أسفارِ موسى الخمسة. حيث جرت محاولاتٍ لشرحِ كيفَ استعان مُحرّرون مُختلفون بمصادرٍ مكتوبةٍ في وقتٍ سابقٍ، مثل "J"، "E"، و"D"، وأجادوا دَمجَها معاً إلى أن وَصَلت الأسفارُ الخمسة لصِيغَتِها النهائيّة. وقد رَكّزت هذه النظريّة بالأخصّ على العملِ التحريريّ المُتأخّر للمصدرِ "P".
ويُفيدُ النقدُ التنقيحي في لفتِ الانتباه إلى الأسفارِ من التكوين إلى التثنية كما تَظهر في الكتابِ المقدّس اليوم. إلّا أنّ النقدَ التنقيحي لم يَتعارض بشكلٍ ملحوظٍ مع النتائجِ التي تَوصّل إليها النقدُ المصدري والصِيَغ الأدبيّة والتقليدي.
5) النقد المعاصر:
في العقودِ الأخيرة، سَعى كبارُ المُفسّرين النُقّاد إلى تجاوزِ المحاولاتِ القديمة لإعادةِ التركيبِ النصّي بشكلٍ نَقديٍّ وتاريخي. فحصروا اهتمامَهُم في الوحدةِ والعُمقِ اللاهوتيَين المُلفتين للنظرِ في النصِّ العِبري التقليدي للأسفارِ الخمسة. وقد اتخذت هذه المنهجيّات أوجهاً عدّةً — نَذكرُ منها على سبيلِ المثال لا الحصر—النقدُ البلاغي، النقدُ القانونيّ، والنقدُ الأدبي الحديث. ولكن اشتركَ جَميعُهم في التركيزِ على تفسيرِ الأسفارِ الخمسة كما تَسلّمناها من المجمعِ اليهودي والكنيسة. ويُعدُّ التعاملَ مع الأسفارِ الخمسة في شكلِها النهائي أمراً واعداً أكثرَ من المنهجيّاتِ النقديّة القديمة. وحدَه الوقتُ كفيلٌ بإظهارِ ما ستَحمِلَه إلينا هذه المنهجيّاتِ المُعاصِرة من ثمارٍ.
الكلمة
عن هذه الخطة
تدعى أول خمسة أسفار في العهد القديم عادة أسفار موسى الخمسة. وهي تروي قصة شعب اسرائيل من الخلقية إلى الاعداد لامتلاك أرض الموعد. ولكن هل أسفار موسى الخمسة هي مجرد سرد تاريخي لشعب الله المختار؟ أم هي شيء أكثر من ذلك؟ نتعرّف في خطة القراءات هذه على الأسفار من التكوين إلى التثنية، من خلال البحث في سبب كتابتها، ما قصدته لقرّائها الأصليين، والطريقة التي يجب بها أن نتجاوب معها اليوم. نقوم بتلخيص البنية، والمحتوى، والمعنى الأصلي، والتطبيق المعاصر للأسفار من التكوين إلى التثنية. كما نشرح كيف كان لقرّاء موسى الأصليين أن يفهموا الروايات القصصية الواردة في أول خمسة أسفار في الكتاب المقدس، وماذا تعني هذه القصص للمؤمنين المعاصرين.
More
نود أن نشكر خدمات الألفيّة الثالثة على تقديم هذه الخطة. لمزيد من المعلومات ، يرجى زيارة الموقع: http://arabic.thirdmill.org